ثمة فيلم أميركي ظريف يحكي عن أربع توائم فتيات ولدن لأسرتين مختلفتين في مستشفى.. توأمتان ولدتا لرجل أعمال ثري، وتوأمتان ولدتا لفلاح فقير ... يحدث خلط في الحضانة بحيث تأخذ كل أم طفلتها وطفلة الأخرى.. وافترضت كل أم أنهما توأمتان غير متشابهتين، النتيجة أننا نرى التوائم عندما كبرن، الأب الثري رجل الأعمال لديه ابنة تحب الثراء وابنة أخرى تهوى حياة الفقر والاندماج وسط الشعب، ولها ميول ثورية واضحة. نفس الشيء بالنسبة للفلاح الفقير .. لديه ابنة راضية بحياتها وابنة لديها تطلعات طبقية مزعجة، وتحب كل ما هو فخم وغالي الثمن !. لعبت الممثلة الأميركية ليلي توملين دور التوأمتين الفقيرتين، ولعبت بيتي ميدلر دور التوأمتين الثريتين.
تذكرت هذا الفيلم وأنا اقف عند بائع عصير القصب أشرب (شوباً) كبيراً في استمتاع. أتمنى ألا يفرغ الشوب بسرعة وأن تطول هذه اللذة للأبد.. أنتشي بالصداع العابر الذي تسببه برودة العصير وهو يقتحم جوفي، لقد رأيت الكثير من دول العالم، ولست فقيراً ولله الحمد. لقد ذقت الكثير من المشروبات (الحلال طبعاً) وجربت كل أنواع تلك العصائر التي تشربها في كوب بلاستيكي تغطيه قبة، وذقت الخلطات الغريبة في المقاهي باهظة الثمن، التي يقدمها لك شاب له ذيل حصان ويربط مريولة على خصره، وثلاثة أرباع كلامه مصطلحات أجنبية:
- «سعادتك.. هذه خلطة جديدة من الكولا والفانيليا والليمون والرد بول والأناناس مع بسكويت مضروب في الخلاط، وهناك طبقة ماشروم ومايونيز مع لحم مفروم».
ثمن الكوب ثلاثون جنيهاً مثلاً، وهو يأتي كل خمس دقائق ليرى إن كنت مستمتعاً.. طبعاً لابد أن تقنع نفسك أنك مستمتع بعد ما دفعت ثلاثين جنيهاً في كوب. جربت الكثير من هذه الأشياء لكني لم أشعر قط بالنشوة التي يسببها عصير القصب، خاصة عندما تستند على السطح المعدني المبتل البارد بانتظار اللحظة التي تنتهي فيها المعصرة من إفراغ ما في العود من متعة، والرجل يتصرف بوقار الكهنة وهو يضرب الدورق المعدني بالمصفاة ضربات متتالية، ثم يقدم لك الشوب الساحر تعلوه الرغوة...
أما عن المطاعم فقد ذهبت لأماكن كثيرة فعلاً. لكني لم أنعم قط بمتعة الأكل إلا في ذلك المطعم الرهيب الشبيه بوكر عصابة في إحدى حارات كلوت بك.. حيث تسند المنضدة بركبتك حتى لا تسقط لأن إحدى أرجلها مكسورة، بينما القطط تلتف حولك وهي تنظر لطعامك في حقد وحسد. إلى أن تلقي لها بأول قطعة دجاج طبعاً. أما عن الشطائر ومأكولات التيك أوي، فأنا أول من صنع البيتزا في مجتمعي. لاحظ أننا كنا في بداية عصر الانفتاح. وجدت الوصفة في مجلة غربية فجربتها. وقد قدمتها لمعارفي في وقت كانوا يطلقون على هذا اسم (فطير). برغم هذا لم أستطع أن أحبها قط .. ظللت أشعر أنها رغيف خبز مشوه في ظروف غامضة..
كذلك لم يرق لي البرجر قط.. خجلت من الاعتراف بذلك، حتى وجدت د. جلال أمين المفكر الاقتصادي الكبير يقول إنه مجرد وهم، ولا مذاق له تقريباً إلا بما يضاف له من طقوس الكيتشاب والمايونيز والبطاطس المقلية والمياه الغازية... أما عن السوشي فرأيي أنها أكلة مرعبة لا أكثر.
دعوت صديقي - قبل الانفتاح طبعاً - لتجربة الدوناتس في مطعم شهير. لم يكن يعرف معنى اللفظة أصلاً. تذوقه وعرف الثمن فراح يسب ويلعن .. قال لي إن كعك العيد كان ينبغي أن يغزو العالم، فهو أشهى مذاقاً وأرخص ثمناً. لكنها العولمة..
أما ما راق لي فعلاً فهو شطائر الكفتة والكبدة الشعبية التي يبيعها عم (صلاح) في ذلك المطعم جوار السوق، ومعها كوب من ماء النار الحارق هو ماء السلطة بالشطَّة التي يطلقون عليها (خمر الصالحين).. هذه الشطائر اختراع جهنمي عليك مقاومته حتى لا يزداد وزنك عدة كيلو جرامات. أما عن لحمة الراس والعكاوي والممبار فهذا موضوع آخر..!
فإذا جاء موعد الإفطار فأنا أعشق أكل الفول والفلافل من عربة فول .. تدس رغيف الخبز في تلك الأطباق المعدنية الصغيرة وتهشم بصلة بقبضتك. تخيل أن في هذه اللحظة هناك من يفطرون بعصير البرتقال والكرواسان أو ما يسمونه (إفطار إنتركونتيننتال)؟
أما عن شرب الشاي بعد الإفطار، فأنا لم أستطع قط أن أحب الكافتيريات الراقية ولوبي الفنادق. لابد من مقهى شعبي حيث يدوي صوت فيش الطاولة، وصوت قرقرة الشيشة مع السعال. فإذا كان هذا موعد مباراة فأنت تشاهدها في تلفزيون المقهى كأنك في الملعب نفسه.
هكذا أدركت مع الوقت أنني غير مؤهل للثراء. هناك جينات فقر قوية راسخة في خلاياي، ولا احب إلا ما هو رخيص وشعبي وبسيط. لابد أنني ولدت في المستشفى لأسرة فقيرة، ثم تم التبديل بطريق الخطأ لتأخذني أسرتي الحالية. لست نادماً على كل حال فقد جربت مع عصير القصب ولحمة الراس والفلافل والمقاهي الشعبية مُتعاً لا يمكن الحصول عليها بطريقة أخرى.
― مقال "أذواق للدكتور أحمد خالد توفيق
0 تعليقات
شاركونا بآرائكم وتعليقاتكم